أسرار 'الوِرد' القرآني:
كيف يتحول النص القرآني من مجرد كلمات إلى دستور حياة ومعجزة عقلية خالدة؟"
. How Does the Quranic Text Transform from Mere Words into a Constitution for Life and an Eternal Intellectual Miracle?
في خضم التجاذبات الفكرية والمادية التي تموج بها الحياة المعاصرة، يبرز النص القرآني ليس مجرد كتاب للتعبد، بل كمنظومة معرفية وروحية متكاملة تهدف إلى إعادة صياغة الوعي البشري. يستعرض هذا المقال، استناداً إلى أطروحات الدكتور أحمد عبد المنعم، الآليات النفسية والعقلية اللازمة لاستقبال النص القرآني، محولاً إياه من كلمات مقروءة إلى طاقة نورانية فاعلة ومُغيرة.
الوضع الأنطولوجي للقرآن: جدلية النور والظلمات
إن الإشكالية الجوهرية التي تواجه المسلم المعاصر لا تكمن في عدم قراءة القرآن، بل في القصور عن إدراك "القيمة الوجودية" لهذا الكتاب. يصف الخالق سبحانه وتعالى كلامه بأوصاف ذات دلالات عميقة: (شفاء، بصائر، هدى، روح). هذه المفاهيم ليست مجرد استعارات بلاغية، بل هي حقائق وجودية.
عندما ينص القرآن في سورة إبراهيم على غايته العظمى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، فإنه يؤسس لقاعدة معرفية مفادها أن غياب القرآن عن النسق الحياتي للفرد أو المجتمع هو انغماس حتمي في "العدمية" والظلام. فالقرآن هو "كلام الله" الذي تكلم به حقيقةً، وهو الحبل الممدود لانتشال النفس البشرية من تيه المادة إلى رحابة الروح.
فلسفة "الوِرد القرآني": من العادة إلى الارتواء الروحي
لغوياً، يُحيل مصطلح "الوِرد" إلى مورد الماء الذي يقصده الظامئ للارتواء. ومن هذا المنطلق الدلالي، يجب إعادة تعريف علاقتنا اليومية بالقرآن. إن تخصيص جزء يومي للقراءة (الوِرد) لا ينبغي أن يكون طقساً ميكانيكياً رتيباً، بل هو ضرورة بيولوجية-روحية تشبه حاجة الجسد للماء.
إن المفارقة العجيبة تكمن في إيمان الفرد نظرياً بأن القرآن هو مصدر "الحياة" و"النور"، ثم لا يترجم هذا الإيمان إلى سلوك بحثي جاد عنه. إن التعامل السليم يتطلب استشعار "الفقر الذاتي" و"العطش الروحي" الذي لا يسده إلا الوحي، مما يولد طاقة دافعة للسعي نحو فهم مراد الله وتنزيله على الواقع المعاش.
القرآن بوصفه "المعجزة العقلية الخالدة"
يميز الفكر الإسلامي بين نوعين من المعجزات: المعجزات الحسية المؤقتة التي انتهت بانتهاء زمن الأنبياء السابقين، والمعجزة العقلية الخالدة المتمثلة في القرآن الكريم. يشير الحديث النبوي الشريف: «ما منَ الأنبياءِ نبيٌّ إلا أُعطِيَ ما مِثلُه آمَن عليه البشرُ وإنَّما كان الذي أوتيتُه وَحيًا أوحاه اللهُ إليَّ...» (صحيح البخاري)، إلى تفرد القرآن بكونه معجزة تخاطب البنية العقلية والوجدانية للإنسان في كل زمان.
هذا التفرد يفرض علينا مسؤولية أخلاقية ومعرفية تتجاوز الحفظ والتجويد -على أهميتهما- إلى "التدبر المنهجي". فصلاحية القرآن لكل زمان ومكان تعني قدرته المستمرة على تقديم الحلول واستنهاض الهمم، شريطة أن نتمسك به كـ "منهج حياة" يحكم التصورات والسلوكيات، مصداقاً للوصية النبوية بالتمسك بالثقلين للنجاة من الضلال.
إعداد وتحرير: فريق الشامل التعليمي | eshamel.net
المرجع: سلسلة أسرار فهم القرآن، د. أحمد عبد المنعم.
